[5]

كانت هناك دادة تأتي إلى البيت كل أسبوع لتنظفه حين تأتي يتصنع عمرو النوم .. ويرفض الإفطار .. حين تمضي يطلب الأكل ..لماذا؟ لأنه حدث ذات مرة أن حملته أمه أمام الدادة ، و أدخلته غرفة بعيدة .. وقد كان يرى في هذه إشارة أنه صغير ، وهو يرى أنه كبير ليس صغيرا

في هذا البيت الهادئ داعبت أصابع عمرو لأول مرة البيانو ، البيانو لم يكن عبقريا أو مميزا .. كان قطعة أثاث عادية نصف أوتاره معطلة ، انتقل مع أمه من بيت أسرتها ليس كآلة موسيقية و إنما لأنه هذا كان أمرا معتادا عليه في تلك الآونة ، وقد داعبت أصابعه الصغيرة أصابع البيانو البيضاء التي توجد بينها أصابع سوداء .. بالصدفة .. كان يتعلم الجلوس على كرسي البيانو .. لم يكن يريد العزف لكنه استند عليه فسمع أول نغمات في حياته

 

فيما بعد وبمضي الوقت توقف الوالدان عن السؤال ـ من الذي يلعب في البيانو ؟ .. فقد كانت الإجابة معروفة .. عمرو الذي يعزف تلك الأنغام غير المنتظمة

 

و لكن الأصابع التي تعبث في البداية صارت تحاول أن تعزف شيئا له معنى .. هو الذي كان يطلب من ، مساعدة المنزل ـ أن تجلسه على مقعد البيانو و هو الذي يبدأ العزف في عمر ثلاث سنوات نغمات بها بعض النشاز بالطبع .. ولكن دليلها هو الصورة التي سوف ترفقها في آخر القصة

 

نحن الآن في عام 1968 و بعد الهزيمة و بعض أهالي بور سعيد لم يزل مصرا على البقاء فيها رغم قرارات التهجير هذا البعض هو الذي اضطر فيما بعد لأن يترك بور سعيد حين دفعتهم الحكومة لذلك خشية عليهم  بإصدارها قرار إغلاق المدارس

 

عام 1968 المناسبة هي مسابقة لاختيار أحسن أصوات تلاميذ المدارس

كان الاختيار مفتوحا من تلاميذ الصف الثالث ابتدائي و حتى تلاميذ الصف الثالث إعدادي .. وكانت كل مدرسة تجري مجموعة من الاختبارات الجماعية تمهيدا لانتقاء الأصوات التي تصلح لتمثيل المدرسة .. اختار مدرس الموسيقى مصطفى إسماعيل الطفل عمرو ليغني نشيدا وطنيا ضمن مجموعة أخرى من زملائه .. وربما كان تميزه واضحا إذ حين مر مفتش الموسيقى ـ سيد أمين ـ على التلاميذ لاحظ حماس عمرو فأختاره

 

ولم تقف الحادثة عند هذا الحد ، إذ سرعان ما تقرر أن يقوم عمرو بالغناء نشيد ـ بلادي .. بلادي ـ في احتفال محافظة بور سعيد يوم 18 يونيو 1968 بذكرى رحيل أخر جندي بريطاني .. وغنى عمرو بحماس .. وتجاوب معه الجمهور .. وكان المحافظ حاضرا .. فطلبه .. وذهب السيد أمين به إليه ، فطبع الحافظ حسن رشدي على خد عمرو أول قبله احتفاء و تشجيع و تكريم

 

لم ينته الموقف مع المحافظ عند هذا الحد

إذ سأله حسن رشدي أي جائزة تختار .. علبة شكولاته أم طقم أقلام ؟ فأختار عمرو الأقلام ، لأنها حتفضل و الشكولاته حتخلص ـ فأعطاه المحافظ فبلة جديده مصحوبة بقلم حبر أبنوس و قلم رصاص ، وتم اختياره كأحسن صوت لطفل في مدارس بور سعيد .. فكانت تلك هي أول جائزة في حياتة

و الطريف أن هذا اليوم لم يكن فقط احتفالا برحيل آخر جندي بريطاني من مصر .. ولكنه كان أيضا احتفالا بعيد العلم .. ومن عجب أن والد عمرو لم يشهد هذه اللحظة .. بل انه بعد ذلك مات قبل أن يرى ابنه في أي حفل عام .. وفي هذا اليوم كان مريضا .. أخذ حقنه مسكنة ونام و بقيت أم عمرو بجانبه ترعاه .. وهي بدورها لم تره في أي حفل عام فيما بعد .. لكن الذي نقل لها تفاصيل هذا اليوم .. كان هو ابن عم عمرو .. الذي كان مدرسا في الليسيه حيث يدرس عمرو .. والذي سرعان ما هرول إلى عمه و زوجته ينقل لهما احتفاء الجماهير و المحافظ بابنهما المطرب الصغير

 

ولقد كان لمدينة بور سعيد إذاعة محلية تتصل بمكبرات للصوت ، تربط جميع شوارع و أحياء المدينة.. وكانت مفاجأة للجميع أن يتم افتتاح الإذاعة الداخلية للمدينة بنشيد ـ بلادي .. بلادي ، بصوت الطفل عمرو عبد الباسط دياب  ثم يعقب النشيد نشرة الأخبار ! والمثير أن يظل هذا الوضع قائما بشكل يومي منذ 19 يونية 1968 ، حتى التهجير في مارس 1969 ... في هذا الوقت استمع كل أهالي بور سعيد إلى ذلك الطفل المغني .. لكنه كان سيئ الحظ إذ انه لم تكن هذه الإذاعة تذكر اسم المطرب ابن السادسة من عمره!

كان عمرو في هذه الفترة يجد تشجيعا من الوالدين ، فقد كان والده رجلا متدينا يواظب على قراءة القران الكريم بترتيل يدعو إلى الخشوع ، كان يحاكي إلى حد كبير الترتيل بطريقة الشيخ محمد رفعت ، و كان والد عمرو يؤذن في جامع لطفي ببور سعيد يدعو الناس إلى الصلاة ، في نفس الوقت فهو متذوق للموسيقى و الغناء، ويحب كثيرا أغاني أم كلثوم و عبد الوهاب

ومن هنا لم يمنع الأب ابنه من الغناء ولم تمنعه أمه وكان البيانو ذو الأوتار التي تعطل نصفها يشجعه .. وكانت الجائزة الأولي قد حفزته بينما الإذاعة الداخلية تدعوه للمضي في طريقه

 

بعد التهجير كان نصيب عبد الباسط دياب أن يعمل في منطقة ورش هيئة قناة السويس ، بحي أثر النبي ، وكان مقر هجرته و استقرار أسرته ، هو بلده ـ سنهوت بمنيا القمح ـ بمحافظة الشرقية ، و لقد اضطرت الأسرة لتحويل أوراق الولدين ـ عمرو وشقيقه الوحيد عماد الذي جاء ميلاده بعد ميلاد عمرو بعام واحد و أربعة شهور ـ من مدرسة ليسية باب الوق بالقاهرة عن إقامة الأسرة بالشرقية ، حيث كان الوالد في حالة سفر يوميا بالقطار من محافظة الشرقية إلى القاهرة ..بين البيت والعمل

 

هذا الانتقال بين لغتين صدم التلميذ الصغير بالتأكيد، و من الطريف أنه ظل لبضعة شهور يحتكر في فصله تقدير الكعكة في مادة الحساب .. كان يرسب دائما رغم أنه طفل متميز، وعندما بحثت الأسرة مع المدرسة عن سر وراء ذلك ، اكتشفوا أن عمرو يجمع و يطرح رقم 5 = خمسة بالأرقام العربية على أنها zero  أي صفر ! وبالتالي تأتي كل عملياته الحسابية غلط في غلط

لكن هذا الرسوب في الحساب الذي توقف بعد فترة لم يمنعه من الغناء

 

ففي عام 1970، ذهب الطفل عمرو للغناء ممثلا لمدرسته في محافظة الشرقية.. كان هذا في قصر ثقافة الزقازيق، وكانت المرة الأولى التي يفترق فيها الشقيقان ـ عمرو و عماد ـ .. إذ تطلب غناء عمرو في قصر الثقافة الزقازيق مبيت عمرو لمدة ليلة واحدة هناك، خوفا من سفره ليلا بمفرده فما كان من عمرو عند عودته إلا أن أحضر ـ باكو من الشكولاته ـ لشقيقه عماد تعويضا للشقيق الأصغر عن غياب الأكبر

 

هل هو إحساس مبكر بالمسئولية ؟ قد يكون كذلك ، ذلك أنه قدم لشقيقه الشكولاته بيده اليمنى و معه اعتذار عن تأخره أما في يده الأخرى ، فقد كانت تحمل كأس أحسن مطرب ـ طفل ـ على مستوى مدارس الشرقية !

كان ذلك موعدا أخر لعمرو مع النجاح و الجوائز التي بدأها مبكرا جدا  ، وهذا ما يدفعنا إلى البحث عن علاقة الشقيقين

 

و لقد اتضح أن هناك ثقة كبيرة تجمع بين عمرو، وعماد، هذه الثقة تمتد جذورها إلى أيام الطفوله ..مثلا عندما كان يحصل عمرو و عماد على مصروفهما بالتساوي .. لا فرق بين صغير وكبير .. فما يكون من عمرو إلا أن يعطي مصروفه كاملا لشقيقه الأصغر قائلا له ، خذ يا عماد زي ما تشتري لنفسك أشتري لي ـ ، وهذه الثقة التي لخصها لي عماد دياب بقوله

عمرو مسلم نفسه لي

 

و الآن نجد عماد دياب هو الذي يتولى علاقات عمرو مع البنوك و الضرائب و بقية المسائل المالية، وهو أمر له مغزى و يدل على عمق وإيجابية العلاقة بين الشقيقين لم تفرق بينهما الشهرة و لا المال .. بل زادت قوة و اندماجا

 

هذه الثقة ولكن أين الشقاوة؟

 

الحقيقة التي يؤكدها الجميع هي أن بند الشقاوة لم يكن موجودا بمفردات طفولة عمرو و شقيقه عماد، وهو ما جعل الأب يقول لي ذات مره أنه لم يشعر أبدا بزهقان في طفولة عمرو خاصة فيما يتعلق في علاقته بأخيه لدرجة انه يتعجب من شكوى زملائه في العمل و جيرانه في بور سعيد من قولهم ـ الولد أبني عمل الولد أبني سوى أو الواد ضرب أخوه وهكذا ـ و قال الأب ـ رحمه الله ـ أشد ما كان يخيفني أن يكون ذلك ما يحدث فعلا بين الشقيقين أثناء غيابي  فقرر أن يراقب تصرفاتهما فتره، و عندما اطمأن على أن علاقتهما لا تخرج عن نطاق السمن والعسل كافأ الأخوين بزيادة مصروفهما الرب مره واحدة

 

و فيما يبدو فأن الأسلوب التربوي الذي طبقته أسرة عمرو في تربيته ساهم إلى حد كبير في تكوين شخصيته مبكرا و قد ساعد على هذا دراية الأم بوسائل و نظم التربية باعتبارها معلمة و مربية لنشئ في مدرسة ليسيه بور سعيد

 

مثلا .. كان عمرو يعود إلى منزله بعد انتهاء اليوم الدراسي فيجد الأسرة في انتظاره على مائدة الطعام، إلا انه كان متحمسا لدراسته فيدور بينه وبين الأم هذا الحوار

آلام ـ يا للا يا عمرو .. ع الغدا

عمروـ ماما من فضلك أعمل الدوفوار ـ أي الواجب المدرسي ـ الأول

الأم ـ لكن الأكل ساخن .. الحقه قبل ما يبرد

عمرو ـ بس أنا عندي واجب كالكيه ـ أي حساب ـ عايز أخلصه و بعدين أكل

 

إلى هنا يمكن أنت تتفق أمهات كثيرات على الحوار السابق و لكن الخلاف يبدأ بعد آخر كلمة نطقها عمرو ، ويمكن أطفال كثيرون ينطقونها فكثير من الأمهات يبدأن بعد ذلك في سرد عبارات من عينة

كل الأول و بعدين أعمل الواجب .. المذاكرة مش  ح طير

أتنيل كل وبعدين اعمل اللي أنت عايزه

أو تسخن أكثر وتقول

يعني فالح قوي .. اتسمم و بعدين هبب اللي تهببه بدل ما انت عدمان كده وعمرك ما هتفهم حاجة طل ما انت ما بتكلش

 

لا .. لم تلجأ والدة عمرو يوما إلى مثل هذة التعليقات المحبطة .. ولم تفرض و لو مرة واحدة  على ابنها رأيا بل كانت تحاوره و عليه هو أن يختار إذا ما أقتنع بشئ .. وعليه أن يقرر خاصة في مسألة تناول الوجبات أو أصناف معينة من الطعام

نفس الشيء كانت تتبعه الأسرة في علاقتها بالابنين، عمرو و عماد ..ولم تفرق بينهما في التعامل .. نفس المصروف لكليهما بالتساوي ، مع ترك حرية الصرف لكل منهما في حدود المفيد والمطلوب

ولذلك استمرت علاقة الشقيقين بنفس الدرجة من الحميمة و الخوف على الآخر

وعندما سألت عمرو عن هذا قال بسرعة و تلقائية ـ أنا بحب عماد قوي .. قوي .. من واحنا صغيرين .. مش عارف ليه بأحس إنه أبني .. مش أخويا  

[السابق]     [التالي]    [الرجوع إلى الفهرس]

 

Copy Rights Reserved @ DiabOnline / جميع الحقوق محفوظة @ دياب أون لاين