[1]

.لقد كانت مفاجأة بكل المقايس

حتى كلمة مفاجأة قد لا تكون كافية كي تشير إلى ما حدث فهي كلمة استعملت كثيراً، حتى بليت ولم تعد تعتبر كما يجب عن علامة الدهشة التي تثور حين يحدث شي لافت .للأنظار، لا سيما حين يكون هذا الذي حدث أمرا يجب رصده بدقة من الناحية التاريخية

21/11/1997 لقد حدث هذا في مساء يوم

.وكان الرئيس مبارك حاضرا ، و كافة قيادات الدولة و الجيش

و كانت كاميرات التلفزيون تنقل ما يحدث على الهواء مباشرة ، ولكن ما الذي حدث؟

لن أجيب الآن ، و سأؤجل الإجابة بعض الوقت ، فالذي راقب ما حدث قد يجد أنه أمر عادي في سياق قصة عمرو دياب ،، وفي سياق حالة النجومية الطاغية التي يعيشها الآن، وفي سيلق الظاهرة التي خلقها على الساحة الغنائيه  ،، لكن تأجيل الإجابة سوف يكون مفيدا إذا تعرفنا على الظروف العامة و الفنية التي نمت فيها الظاهرة ، وترعرعت فيها حكاية هذا الشاب الذي سبح ضد التيار، و خاض الرحلة الصعبة عكس الريح، حتى صار هو الذي يحدد اتجاه الريح

أن هذه الإجابة المؤجله تقتضي أولا أن نعود قليلا الى الوراء 

أي ان نعود الى نهاية السبعينات و بداية الثمانينات حين كانت مصر على موعد مع التغيير المستحيل في اتجاهات ذوق الناس حين كان لم يزل طعم صوت عبدالحليم حافظ في الآذان حين كان عبدالحليم المطرب العظيم الذي نمت معه الأحلام و الأماني لم يزل هو أتجاه الريح ،، حين كان الجميع لم يزل يذكر قصص بعض الشباب الذي بكى  ـ إن لم يكن اكتأب ـ حين مات عبدالحليم حافظ  ، و حين كان الكل لم يزل يذكر قصص الفتيات اللاتي انتحرن بعد موت  ـ الموعود بالعذاب ـ

كانت مصر على موعد مع التغيير المستحيل ، وقد كان التغيير مستحيلا لأسباب أبرزها أن آذان الناس كانت قد أدمنت صوت و ذوق عبدالحليم حافظ و من داروا حوله ، و ساروا في اتجاه الريح التى خلقها ، وأهمها أن هذه الآذان التي ادمنت ذلك الذوق كانت ترفض أي ذوق جديد ، و ربما لأنها حزنتن كثيرا على النجم العظيم الذي راح بعد أن ارتبطت به أحلامها وأمانيها و آلامها و أفراحها لفترة طويلة ،، كانت هذة الآذان تسد الابواب أمام أي شخص جديد أو فنان مختلف يريد أن يقول شيئا آخر

كانت مصر على موعد مع التغيير المستحيل ، وقد كان مستحيلا لأن الذوق الذي خلقه عبدالحليم كانت له رموز ، وهيئة دفاع وجبهة حماية ، و أمبراطورية رفض ،، تسيطر أركان وسائل الأعلام و الصحف ،، فتقدم أغتنيه في كل لحظة وفي نفس الوقت تشن هجوما صارخا و فادحا على أية محاولة لاختراق هذا السياج الأسطوري الذي من المؤكد ان عبدالحليم حافظ لو كان حيا ما كان قد فرضه

كانت مصر على موعد مع التغيير المستحيل ، وكان مستحيلا لأن عبدالحليم ، النجم الذي أحبه أعشقه ، لم يكن وحده على الساحة ،، صيحيح أنه كان الأبرز و الأهم و الأوضح و الأكثر جماهيرية ، و لكنه أيضا كان يمثل قمة مدرسة لها طابع خاص في الغناء الشرقي ، يدور في فلكها عشرات من الرموز الفن المصري ، حتى أن كل مطرب جديد كان يعتبر أن طريقه الى الساحة لن يكون سهلا إلا بعد ان يؤدي فروض الولاء و الطاعة لهؤلاء الذي نصبوا أنفسهم حماة للذوق السابق ،، و يقر و يعترف بأنه لم و لن يكون أبدا مختلفا عن القاعدة ،، رغم أن اول الشروط النبوغ هي الاختلاف

ومن عجب أن رموز هذه المدرسة ، رضخوا فيما بعد للذوق الجديد و تحولوا إليه بعد سنوات طويلة من المقاومة ، وبعد أن انقلب اتجاه الريح ، و بعد أن أدركوا أنهم يحاربون في اتجاه مضاد لعجلة الزمن

وقد كان التغيير مستحيلا كذلك لأن هذه هي طبيعة مصر ،، طبيعة ترفض قبول الجديد ببساطة ، طبيعة ترفض التمرد على القديم ، وحين تؤمن بشئ ما فأنها قد تبعده و لا تناقش بعد قترة صحة هذا الايمان ، طبيعة مجتمع أبوي ،، لايقبل ببساطة الخروج عن نطاق حدد له ،، و في الفن و الغناء كان عبدالحليم حافظ هو الأب ، وكان الغناء بشكل مختلف عنه يعني الجحود بالوالد ، و نكران للذوق العام الذي آمنت به الأسرة المصرية

و المثير أن عبدالحليم عانى من هذا حين بدأ ، و استقبل اتجاهه الغنائي الذي كان جديدا في ذلك الحين بفتور بعض الوقت ، ولولا أنه وجد دولة تسانده و نظاما يدعمه ، ولولا أنه تحول بمضى الزمن إلى معبر واضح عن الثورة و عن مصالحها  وعن الجيل الذي يؤمن بها ،، لطالت فترة مقاومته للذوق القديم

ولكن ، إذا كان هذا التغيير الذي نتحدث عنه مستحيلا ، فهل كان قبل ذلك ضروريا؟

الإجابة هي نعم بالتأكيد

والأسباب كثيرة إذا كنت تسأل ـ وسوف تسأل بالتأكيد ،، لماذا ؟

 

[السابق]     [التالي]    [الرجوع إلى الفهرس]

 

Copy Rights Reserved @ DiabOnline / جميع الحقوق محفوظة @ دياب أون لاين